تلين لنا المقادير أحياناً، فتحيل أحلامنا واقعاً مبهجاً. تعاندنا في أحيان أخرى فتخذلنا الأيام، وقد تقسو علينا فتهب رياحها عاتية مزمجرة، تتقاذفنا في ظلمات البحر، فتخلع القلوع من صواريها، وتلقي بمراكبنا مجروحة مبعثرة الأخشاب على مرسى غريب لا يعرفها.
آويت إلى فراشي في ذلك الأربعاء، الأول من شهر آب، مبكراً فلدي موعد في صباح اليوم التالي لاستلام البطاقة المدنية الجديدة التي صدرت لي بعد تجديد إقامتي في الكويت. كنت قد أخذت درساً واحداً في الفصل الصيفي في جامعة الكويت ضمن برنامج دراستي للهندسة الميكانيكية. وما بين غمضة عين ويقظتها في تلك الليلة طوى القدر صفحة كاملة، لا من حياتي فقط ، إنما من حياة المنطقة بأسرها.
استيقظت في الصباح الباكر فزعاً على صوت أبي وهو يقتحم غرفتي صائحاً:
"افتح الراديو، العراق دخل الكويت."
مددت يدي بحركة لا شعورية إلى جهاز الراديو القابع دوماً قرب سريري وأدرت المؤشر على إذاعة الكويت. أناشيد وطنية تتوالى، جلست في سريري وأنا أحاول أن أستوعب ما قاله أبي الذي خرج مسرعاً إلى الصالة يحمل جهاز الراديو الصغير الذي يستعمله دوماً، مستنجداً بالتلفزيون عله يسمع جديداً. كان التوتر قد بدأ يتزايد بين العراق والكويت منذ منتصف العام تقريباً على خلفية اتهام العراق للكويت والامارات باغراق سوق النفط بالعرض وتخفيض الأسعار. كان صدام قد هدد سابقاً وبشكل ضمني أنه قد يستخدم القوة قائلاً في خطابه بمناسبة انقلاب السابع عشر من تموز" قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق". وتصدر قوله هذا عناوين الصحف الكويتية في اليوم التالي، لكن وساطات عربية أثمرت عن عقد اجتماع جدة بين العراق والكويت والذي انتهى في الأول من آب، وتنفس الكل الصعداء حينها أن الأمور سائرة في طريق حل سياسي. ولم يكن أحد يتوقع انهيار التوقعات بهذه السرعة بعد سويعات من نهاية الاجتماع.
قطع المذيع الكويتي الإرسال وقرأ بياناً صادراً من وزارة الدفاع الكويتية يتحدث عن عبور القوات العراقية لخط الحدود، ويبدي أسف الحكومة لاستخدام القوة وخرق السيادة الكويتية، ويدعو لعودة القوات إلى مواقعها. عادت الأناشيد الوطنية، واستمعت إليها وأنا في حالة فقدان توازن، ما هذا الذي أسمعه؟ كيف تدهورت الأمور إلى هذا الحد؟ هل هو احتلال كامل أو مجرد دخول للمناطق الحدودية؟ ماذا سيكون مصيرنا كعراقيين مقيمين في الكويت منذ ما يقرب من عشرين عاماً؟ أسئلة خنقت عقلي وأنا لا أزال أحاول استيعاب الموقف إلى أن جاءت لحظة صادمة بعد فترة ترقب لم تدم طويلاً، خرج المذيع بصوت متهدج أقرب للانهيار وهو يستنجد صارخاً أن العراقيين قد احتلوا البلد، ويطلب المعونة من العرب والمسلمين. عندها أصبح الأمر فوق قدرتي على الإنصات لوحدي، هرعت من غرفتي إلى الصالة لأجد ابي على الهاتف يتحدث مع أحد أصدقائه، موظف مصري يسكن قرب شارع فهد السالم في وسط البلد. أغلق أبي السماعة وعلى وجهه ذهول أكبر من أن يوصف.
“ماذا يقول؟” سألته.
أجاب أبي:
“سألته إن كان قد سمع شيئاً جديداً عن خبر عبور الحدود فرد علي: حدود إيه يابو علي؟ الجيش العراقي تحت في الشارع.”
“الجيش العراقي في فهد السالم!” رددت بصوت مسموع كمن يريد أن يقنع نفسه أن ما سمعه حقيقة لا خيال.
كان البيت كله يقظاً في حينها، كان تلفزيون الكويت يظهر صور الأمير، الشيخ جابر الأحمد، وولي العهد، الشيخ سعد العبد الله، ويبث أغاني وطنية. أما تلفزيون العراق، فقد كان بدوره أيضاً يبث أغاني وطنية، ويخرج علينا مذيعوه بنفس التوتر ونبرة الخطابة التي كانوا يقرأون بها بيانات الحرب مع إيران ليذيعوا بياناً مفاده أن حركة انقلابية وقعت في الكويت، وأن منفذيها طلبوا العون من العراق، وأن العراق استجاب لهذا الطلب. كنا ننظر لبعضنا غير مصدقين لما يحدث، فالحديث عن انقلاب في الكويت أمر أقرب للخيال. كان الهاتف لا يكف عن الرنين، أصدقاء عراقيون يتبادلون معنا مشاعر الصدمة والأخبار المتلاحقة عن أماكن تقدم الجيش العراقي وسط المدينة، وأصدقاء كويتيون دهمتهم الأخبار كإعصار ويحاولون أن يفهموا منا ما حدث، ظناً منهم أننا نعرف تفاصيل أكثر لأننا عراقيون، ولم نكن نعرف أكثر مما يعرفون، ولكننا كنا أكثر خوفاً وقلقاً.
لقد غزا بلدي بلدي، واستباح جيش بلادي مدينتي ومرابع طفولتي. لم نكن نملك إلا الانتظار والانتقال من محطة لأخرى علنا نعرف المزيد.
"نحن لا نملك ما يكفي من الطعام في البيت ولا حتى من الفلوس" قالتها أمي وهي تنظر لأبي بحيرة.
انطلق أبي إلى غرفته، أحضر بطاقته الائتمانية واعطاني إياها.
“روح للبنك واسحب الحد الأقصى وخللي نشوف إلى أن الله يفرجها.”
انطلقت بسيارتي النيسان البيضاء الصغيرة إلى حيث البنك التجاري في مدخل الجابرية، سحبت الفلوس من ماكنة الصرف الآلي وعدت أدراجي، في الطريق شاهدت عامل البقالة الهندي قرب منزلنا، كان قد رش الماء أمام المحل وبدأ بإخراج عارضة الصحف والمجلات أمام واجهة المحل. توقفت فوراً ونزلت لشراء الصحف، لم يكن يبدو عليه أنه سمع شيئاً أو عرف الخبر الصاعقة، ولم أكن أريد قراءة خبر جديد في صحف القبس أو الأنباء أو الوطن التي اشتريتها، ولكنها عادة ابتدعتها منذ مدة في أرشفة الاحداث عن طريق الاحتفاظ بالصحف.عدت للمنزل وأنا أحمل صحف الكويت التي كات عناوينها تتحدث عن اجتماع جدة والاتفاق بين الشيخ سعد وعزة الدوري على اللقاء مرة أخرى لمناقشة الخلافات. كان أحد أعمدة الرأي في جريدة القبس يحمل عنوان " لقاء الأشقاء"، وهززت رأسي بمرارة.
دخلت المنزل وأنا متلهف لمعرفة أية أخبار جديدة، ولم يطل انتظاري. طرق الباب أحد الجيران ليقول لنا بصوت لاهث إن الجيش العراقي يقترب من منطقتنا، وأنه بامكاننا أن نرى عمود دخان من سطح المنزل. انطلقنا جميعا معه للسطح، كانت شمس آب اللاهبة قد بدأت تصلينا بلفحاتها القاسية، نظرنا إلى الأفق ونحن نحجب الشمس عن أعيننا، تبادلنا التعليقات حول أعمدة الدخان البعيدة ومن أين عساها تخرج، وما هي إلا دقائق حتى زأرت السماء فوقنا ونظرت إلى الأعلى فإذا بها طائرات هيلكوبتر عراقية تطير بمستوى منخفض حتى أني تمكنت من رؤية الجنود بداخلها. نزلت مسرعاً إلى البيت وأنا أرتجف خوفاً وغضباً وصرخت أمام أهلي ومن تجمع من الجيران حينها:
“لقد جن صدام، هذا الرجل مجنون.”
وشعرت بيد أمي تضغط على ساعدي بقوة، نظرت إليها والعروق تكاد تنفر من رقبتي وانطلقت إلى غرفتي ساخطاً لاعناً، تبعتني قائلة:
“من الآن فصاعداً لا تتحدث عن صدام هكذا علناً ، أنت لا تقدر العواقب.”
يا إلهي، لقد جرّت تلك السحابة السوداء التي غطت العراق لسنين طوال ذيولها لتخنق سماء الكويت أيضاً. أحسست حينها بطعم الخوف الحقيقي لأول مرة في حياتي.
توافد بعض الجيران على منزلنا، وكذلك فعل بعض الأصدقاء ممن يسكنون قريباً منا. كان الحديث لا يعدو أسئلة متبادلة، ووصفاً لمشاعر الصدمة والخوف. كان القلق هو سيد المشاعر، كنا نشاهد التلفزيون جيئة وذهاباً بين المحطات. كان التلفزيون العراقي يبث، ضمن ما يبثه من أغاني وطنية، أغنية وطنية عن العراق للمطرب الكويتي المعروف،عبد الله رويشد، من كلمات الشيخ فهد الأحمد، شقيق الأمير، وكان هذا لمحة من تلك الصورة العبثية التي تبدت ملامحها الكئيبة يوم الغزو. تبادلنا حينها نظرات الامتعاض وتعابير الاستنكار. كان من المثير أن نرى التلفزيون السعودي يومها صامتاً لا يتطرق إطلاقاً إلى خبر الغزو من قريب أو بعيد. وأثار هذا الأمر سيلاً من التحليلات والتساؤلات. هل يحاول السعوديون التدخل وتلافي العواقب؟ هل ما نراه من اكتساح عراقي للكويت هو رد فعل وقتي على الأزمة قد تعالجه الدبلوماسية الهادئة فيما بعد؟ كنا نتقاذف الأسئلة وما كنا نظنه أجوبة محتملة في غرفة الجلوس أمام التلفزيون، ولم تكن أصواتنا في الواقع سوى قلق يتحدث بصوت عال، وحيرة لم يعد العقل يحتملها فأطلت مرددة أسئلة لا إجابة عليها.
لا أدري كيف مر علينا يوم الثاني من آب، في كل دقيقة هناك سؤال، هناك معلومة، هناك إشاعة، والكل مستعد لتصديق أي شيء فجنون ما حدث لم يعد يعطي للعقل مكاناً. ما تأكدنا منه يومها أن الكويت قد تم احتلالها بالكامل، وأن الأمير وولي العهد قد تمكنا من المغادرة بسلام، وأن الشيخ فهد الأحمد، شقيق الأمير، قد قُتل، وأن المستقبل يبدو مجهولا ولا أحد يستطيع التكهن بما ستؤول إليه الأمور. كانت الرغبة في معرفة ما يحدث خارج حدود الجابرية حارقة، اقترح أبي أن نخرج قرب المغرب في جولة بالسيارة لنستكشف الوضع. قاد أبي السيارة إلى شارع الخليج حيث استوقفتنا نقطة تفتيش تابعة للجيش العراقي هناك. حدثنا الضابط بنبرة هادئة غلفت قلقه وعدم فهمه لما يجري، لم تكن لديه إجابة على أي سؤال، بدا وكأنه يحصر تفكيره في أداء مهمة ضبط الأمن والمرور، واقتصر كلامه على التمنيات والكثير من "إن شاء الله"، و" الله كريم" وهو ما يردده العرب عادة حين لا يكون لديهم ما يقولونه.
لم تعطنا الرحلة معلومات إضافية. لم يبد على هؤلاء الضباط والجنود أنهم يعرفون ماذا يفعلون، أو على الأقل أنهم مجهزون. كانوا يتبادلون الحديث بهدوء مع سائقي السيارات ويطلبون منهم شيئاً من الماء البارد، وكان هذا أمراً لافتاً بالنسبة لي. كانت شوارع الكويت تبدو غريبة بمنظر رجال الجيش العراقي يقطعون الطرقات ويفتشون السيارات. كنت أراها كما لم أرها منذ عرفتها في صباي الباكر.عدنا إلى المنزل وهرعت إلى غرفتي واستلقيت على سريري تتخاطفني الأفكار يمنة ويسرة. كانت محطات الإذاعة تتناقل الخبر بصيغة لا تختلف عن بعضها كثيراً، ولا تضيف إلى ما سمعناه جديداً. كان لا بد أن ننتظر الأيام القادمة لنرى ما الذي تخبئه لنا. رباه، كم تغيرت الحياة منذ وضعت رأسي على نفس الوسادة مساء الأمس.
غابت شمس الثاني من آب وكل من في المنزل، بل كل من في المنطقة العربية، يشعر وكأن موجة عاتية قد ضربتنا فأفقدتنا الوعي، وأفقدت البوصلة ذاكرتها، وأفقدت المكان معناه، فما عدنا نعرف أين نحن وإلى أين سائرون. كان البحر الهائج ملبداً أمامنا بعواصف جديدة بدت نذرها في الأفق، وبدت أمواجها الأقسى والأعتى تزأر في وجوهنا، زاحفة من البعيد المظلم لتضرب زوارقنا الصغيرة وتحيلها حطاماً. لن يبقى أمامنا بعد اليوم سوى أن نتمسك بما بقي من أخشابها المتكسرة، وأن نطفو على صفحة اليم العميق نستجدي شاطئ أمان بدا في تلك اللحظة بعيداً بعيداً.